الأربعاء، 6 مارس 2013

فلـــــــــسفة التواصل (اللغة والتواصل)

اللغة والتواصل:
 تظهر اللغة نفسها على شكل الوصي الوحيد للتواصل المهيمن الأساسي، والذي لا تقوم أية عملية إلا به، وهو النقاش الذي صاغته الفلسفة عبر عدد من النظريات اللغوية واللسانية، والتي تحمل عمقا فلسفيا داخل تحليلها للتواصل عبر تفكيك مفاهيمه وعلاقاته، ومركزة اللغة لاعتبارات عديدة، من بينها اعتبار اللغة "هي إنتاج فكر وتبليغ في آن واحد"؛ أي أنها تجمع بين بعد الإنسان الذاتي في عملية التفكير الداخلي، والذي يسيطر عليه تواصل يستحضر فيه الفرد كل التركيبة المرجعية، ويحاول تبليغها لتكون اللغة حاضرة مرة أخرى كشكل النطق، أو منطوق لغوي يفصح عن الإرادة الداخلية للفرد، من أجل بلورة عملية تواصلية يتشارك فيها فكره الداخلي مع العالم الخارجي، إما بإيماءات لغوية أو بلغة منطوقة، أو مكتوبة. إذ أن اللغة هي "سلسلة من الأصوات المتمفصلة ولكنها أيضا سلسلة من الدلائل المكتوبة (كتابة) أو نظام حركات (حركية) وهذه الصفة المادية للغة. المنطوقة أو المكتوبة أو الحركية تنتج ما نسميه فكر ونعبر عنه في آن واحد.
 بمعنى أن اللغة تمثل حقيقة الفكر وتحققه، بل إنها الشكل الوحيد لوجوده، وكثيرا ما نتساءل هل توجد لغة بدون فكر وفكر بدون لغة"[15]، وهنا توضح جوليا كريستيفا في نقاشها حول اللغة، أن ما أمدنا به علم الحفريات "مما يشهد على الممارسات اللغوية إنما يوجد ضمن أنظمة اجتماعية ويصدر عن تواصل معين"[16]، يبلغنا عن الرسالة الفكرية التي عرفتها تلك الأنظمة. وبذلك كانت اللغة أداة الفكر، والمعبر الأساسي عنه. و هو الأمر الذي يوصلنا إلى فحوى التواصل المرتبط هنا باللغة ارتباطا عضويا، ليمكننا القول أن اللغة هي تبليغ رسالة من ذات متكلمة إلى أخرى، أو إحداهما مرسل والأخرى، إحداهما مرسلة وأخرى مرسل إليها أو متلقية، وهذه المصطلحات تشكل الأبنية الأساسية لعملية التواصل فهناك:
-المرسل: الذي يعرف بأنه "مكان تشكل الرسالة أو مصدر الرسالة، وهو الذي يقتضي ميكانيزمات تشفير الرسالة والجهاز المرسل نفسه".
-الشفرة: تعني مجموعة قواعد التركيب الخاصة بنسق من العلامات النوعية، فاللغات الطبيعية تمتلك عددا من الفونيمات والمورفيمات، والعلامة هنا "تتأسس قبليا على مقولة التشابه والتطابق، فهي أي العلامة تنزع دائما إلى اختزال الكثرة إلى الوحدة أي اختزال الذات في الموضوع داخل الرسالة، وعليه تصير العلامة الطبيعية مطابقة للعلامة اللغوية"[17].
-القناة: هي اللازم الأساسي لتجلي الشفرة على التواصل، مثلا نجد بالنسبة للتواصل اللفظي الهواء هو القناة.
-المرسل إليه: أو المتلقي للرسالة، ويشمل عدة آليات لإقامة هذه العملية من جهاز المستقبل، وفك الشفرة. وهذه العملية تتأطر داخليا بتفكيك الرسالة وفق ما تشمله الذاكرة ومحاولة فهم الرسالة. والتواصل هنا لا يمكن أن يقوم دون اللغة فهي كما ذكرنا سابقا الأساس المفصلي في عملية التواصل، وبها يستطيع المرسل إليه فك الشفرة، أو الرسالة، لكن في حالة غيابها لا يمكننا تصور أي عملية متكاملة. لذلك بقي بالنسبة لنا مفهوم اللغة شاملا عاما، مؤسسا لما سمي بالسنن المشتركة التي تساعد على فهم، واستيعاب الغاية التواصلية، التي تعتبر المرجع "هو البنية التي يحيل إليها الخطاب أي ما يتحدث عنه طرفا التواصل، والذي ينشأ نتيجة تطبيق إجراءات تأسيس محددة وفق بروتوكول مقبول بالإجماع، و نتيجة وجود إمكان متاح لأي كان من أجل متابعة هذا التطبيق متى عن له ذلك"[18].
 فدراسة وظائف اللغة لا بد له من "إلقاء نظرة وجيزة على العوامل المكونة لكل عملية لسانية ولكل فعل تواصلي لفظي، وهو ما وضحناه سلفا وأوضحه جاكبسون قائلا أن: "المرسل يوجه رسالة إلى المرسل إليه، ولكي تكون الرسالة فاعلة، فإنها تقتضي. بادئ ذي بدء، سياقا تحيل عليه (وهو ما يدعى أيضا "مرجع" باصطلاح غامض نسبيا) سياقا قابلا لأن يدركه المرسل إليه، وهو إما أن يكون لفظيا أو قابلا لأن يكون كذلك؛ وتقتضي الرسالة، بعد ذلك سننا مشتركا، كليا أو جزئيا، بين المرسل والمرسل إليه (أو بعبارة أخرى بين المسنن ومفكك سنن الرسالة) وتقتضي الرسالة، أخيرا، اتصالا، أي قناة فيزيقية وربطا نفسيا بين المرسل والمرسل إليه. اتصالا يسمح لهما بإقامة التواصل والحفاظ عليه"[19]. وما ذكره جاكبسون هنا يوضح البنية التواصلية التي جمعت مجموعة من المصطلحات تتراكب لتشكل الأساس العميق لأي عملية تواصلية.
  وأقول أن الوظيفة التواصلية لم تتخذ موقعها من البحث اللغوي إلا مع النظرية الثورية للغة مع دوسوسير التي فرق داخلها "بين علم اللغة وعلم لغة الكلام. في إطار الأساس المنهجي لعلم اللغة الحديث"[20]، ولعل النقاش الفلسفي الحاد الذي عرفته اللغة جعل منه الأساس القوي لدراسة أي جانب من الجوانب المحيطة بالتواصل، وكل تمفصلاته. فالتطور الذي عرفه مبحث التواصل اللغوي حسب ما أورده كتاب "فلسفة التواصل" عديد جدا من التداولية، الألسنية، وغيرهما. وما أوضحه من كم الإبداعات، والنقاشات داخله، يجعلنا نعتبر تحديد منطلق الوظيفة التواصلية تخضع لإرادة المجتمع، وحاجياته، وهو ما انعكس على مجمل المواضيع التي لامسته، من مطلب الحداثة، ورؤية الحضارة وتبريرات العقل ومنطقة اللغة.
 ودوسوسير الذي أبدع في فن الدال والمدلول يبرز فصل اللغة عن الكلام، فهو يقول: " اللغة والكلام إذن يعتمد أحدهما على الأخر مع أن اللغة هي أداة الكلام وحصيلته، ولكن اعتماد أحدهما على الآخر لا يمنع من كونهما شيئين متميزين تماما"[21]، وهو ما اعتبر ثورة عند العديد من القائلين بالتداولية، وذلك بمستويين اثنين، أ- من حيث أن اللغة مستقلة عن الواقع. ما يؤدي في النهاية إلى فك الارتباط القائم بين المعنى وهذا الواقع.
ب- تباين الأفاق الادراكوية التي تعبر عنها كل لغة وتميزها عن الأفاق الأخرى. فكل لغة هي بنية دالة منغلقة على ذاتها، ومن ثمة تمتلك إدراكها الخاص بها"[22]. بمعنى أن اللغة هي نسق سابق في وجوده استخدام الكلمات والممارسات العملية التي هي اللفظ، أي أن اللغة هي القوانين، والأنظمة العامة التي تحكم عملية إنتاج الكلام، ومن أجل فهم هذا التصور اللغوي لدوسوسير  يجب أن نخضعه للموقف التواصلي، إذ بدونه لا معنى له. أي الحديث عن اللغة بعيدا عن الوظيفة التواصلية يلغي كل وظائف اللغة الأخرى التي هي هي وظائف التواصل. وهذا ما تحدث عنه و جمع بنيته جاكبسون موضحا الوظائف التواصلية للغة، إذ أن كل العوامل المذكورة تتولد عنها وظيفة لسانية مختلفة. وهو ما يفسر اختلاف الرسالة إذ لا يمكن إيجاد وظيفة واحدة للغة، أو رسالة واحدة. فلا مجال للهيمنة أو الاحتكارية اللغوية. لذلك نجد مجموعة من الوظائف التي انبنت عليها العديد من النظريات التواصلية، التي يعتبر جاكبسون واحدا منها ونظريته، وإن جاءت في سياق تطور الاهتمام بالتواصل إلا أنها تحدثت عن عدد من الجوانب، والوظائف المهمة داخل عملية التواصل، وأعطت لها جانب المعقولية العلمية والرؤية الفلسفية بعدما كانت حصيرة الرؤية الآلية مع ما وضعه شانون في بداية الاهتمام، وضرورة التواصل الآلي عنده. وهو الأمر الذي طور حاجيات هذا المجال ليسمح بتدخل الأفكار الفلسفية الباحثة، والمؤطرة كما رأينا للتواصل في مفاهيم متراكبة تحيط بكل زوايا الموضوع من الإنسان، اللغة، الكلام، اللسان. العملية التواصلية وأبنيتها (مرسل، مرسل إليه، رسالة، مرجع، قناة ) وهذا ما يجعلنا نبين و نوضح كل ما أحاط بعملية التفكير حول نظريات التواصل و أهم هذه النظريات.
و لعل قضية اللغة و التواصل، عرفت تطورا كما أشرنا من قبل "وصلت إلى حد التباين"[23]. فأعطي مفهوم للغة حسب كل تيار لساني، فنجد اللسانيات البنيوية تعرف اللغة بأنها "مجموعة من الملفوظات يتعين وصفها وتصنيفها وصفا واقعيا"[24]، فلا تفصل ولو تخيليا عن التواصل. ونجد رائد التوليدية التحويلية نعوم تشومسكي يحول دراسة اللغة من جانب اعتبارها موضوعا خارجيا، إلى دراسة تهم "نسق المعرفة اللغوية المكتسبة والمتمثلة في دماغ المتكلم"[25]. ولعل هذا التجاذب الصحي حول اللغة، جعل منها عماد التواصل وعموده الفقري. إذ أصبحت مركزية في كل التطورات التي شهدتها النظريات التواصلية، وكذا اللسانية واللغوية، فمن رحم النظريات اللسانية ولدت نظريات تؤسس على مفهومين هما اللغة و التواصل مترادفين لا منفصلين. و عكفت على ملامسة مضمون اللغة الطبيعية و خصوصا التيار المتولد من تزاوج النحوية التوليدية التحويلية و إثنوغرافيا التواصل، الذين أطلق عليهم الاسم اللسانيات الوظيفية  فأصبحت معهم النظرية اللسانية أو موضوعها هو القدرة التواصلية. مركزة على البحث في المخزون، والطاقة الكامنة داخل مستعملي اللغة الطبيعية. و أساس هذا المنطلق هو أن "وظيفة اللغة التواصلية تعطي مستعمل اللغة الطبيعية إمكان التواصل، و إمكان توظيف العبارات في المقامات المناسبة"[26] هنا جعل اللسانيون الوظيفيون من اللغة ذات وظيفة تواصلية في المقام الأول، و عبرها يمكن للدارس أن يصل الى بنيات اللغة الطبيعية.
ما يهمنا هنا هو هذا التزاوج والالتحام بين اللغة و التواصل ليصبح للغة وظيفة هي التواصل وهذا الأخير لا يستطيع أن يحقق كينونته إلى بوجود اللغة. وهذا ما جعل من الفلسفة تأخذ على عاتقها عدم الفصل بينهما، وتوضيح طبيعة هذا التزاوج، عبر عدد من النظريات والأطروحات الفلسفية التي تؤثث لهذا الفضاء. وهي أيضا تمهد لنا النقاش حول تلك النظريات، وتوضيح مسألة الارتباط وزوايا الاختلاف، وكل التشعب الحاصل داخلها.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق